البرهان الديكارتي على وجود الله



يعد رينيه ديكارت­ أحد أعظم الفلاسفة في القرن 17م، الذين أسهموا في تشكيل العقل الغربي الحديث، حتى لقبه البعض بأبي الفلسفة الحديثة لإسهامه الكبير في وضع منهج جديد للفلسفة والعلوم، وإذا ذكر المذهب العقلاني فهو يمثل الشخصية الرئيسية فيه، ولعل أكثر ما يشتهر به هو قولته المشهورة أنا أفكر إذن أنا موجودوهذه العبارة الاستدلالية البسيطة هي أول مبدإ في النظرية الميتافيزيقية التي وضعها، أو قل فلسفته الأولى، أي نظريته المعرفية للتوصل إلى الحقيقة.

الإبستيمولوجيا الديكارتية

أكثر ما يهمنا في فلسفة ديكارت هي دعواه المتعلقة بالأفكار الفطرية، فلقد قامت فلسفة ديكارت على أساس نقده وثورته على ما كان سائدا قبله (وهو ما يسمى بالشك المنهجي)، محاولا شق مجرى جديد للفكر، لذا فرض هذا الأخير أن تكون معارفنا نتيجة للملاحظة الحسية أو التجربة، حيث جاء في كتابه تأملات ميتافيزيقية ما يلي: “ينبغي لنا، كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة، أن نرفض كل آرائنا القديمة، مرة في حياتنا” [1]، ومن أهم ما يجب التشكيك فيه وتحرير العقل وتطهيره منه حسب ديكارت هو معطيات الحواس، فالقاعدة الثالثة من التأمل الأول هي أن هذه المبادئ، هي الحواس التي لا يمكن الوثوق بها لأنها خداعة [2]. وهو بهذا يقر بأن هناك نوعا من الأفكار لا دخل للحواس في صنعها، كما لا يمكن الشك فيها، وهي الأفكار الفطرية، ليعلن أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
ويقر ديكارت بأن هذا العقل الذي وزع بين الناس بالفطرة لم يوجد فارغا لينتظر ما تجود به التجربة عليه، بل وجد مزودا بجملة من الأفكار، ومصدر هذه الأفكار حسب رأيه هو الله عز وجل حيث يقول: “لا أقبل شيئا على أنه حق، مالم يظهر لي أنه أكثر وضوحا وتوكدا من براهين أصحاب الهندسة من قبل، ولكنني لاحظت أيضا بعض القوانين التي أقامها الله في الطبيعة، والتي طبع في نفوسنا معارفها، بحيث إنه بعد التفكير فيها تفكيراً كافيا، لا نقدر على الشك في أنها روعِيَت بدقة في كل ما هو موجود، أو كل ما يحدث في العالم” [3].
إن فكرة الله أو الصانع عند ديكارت هي فكرة مركزية في الإبستيمولوجيا الديكارتية، حيث يقول: فإنني لا أعني بالطبيعة بالإجمال شيئا آخر غير الله نفسه أو النظام والترتيب الذي أقامه الله في الأشياء المخلوقة، فحقيقة الجزء أو الواحد إنما تكون له من خلال ارتباطه بالكل، وبغير الله لا سبيل إلى يقين عن قوانين العقل ولا ثقة بها، ولا سبيل إلى يقين عن قوانين العالم وطبيعته، ولا سبيل إلى يقين عن واقعيته، فالله مصدر اليقين كما هو مصدر الوجود، وهو واهب الحق وضامنه.
وقد كان لديكارت أكبر الفضل في بناء صرح الاتجاه العقلي الحديث حين وضع قاعدته المنهجية المشهورة وهي: قاعدة البداهة واليقين، التي تدعو إلى رفض كل سلطة تحاول أن تفرض نفسها على التفكير، ولا تقبل إلا حكم العقل الذي لا يرى الحقيقة معيارا إلا البداهة والوضوح [4].
وقد انتقد ديكارت المنطق الأرسطي ووجده غير نافع لتقدم العلم وغير واف لغرضه، فكان هذا من الأسباب التي حملته على التفكير في البحث عن منطق آخر، وهو الذي أدى به إلى وضع منهج جديد في العلوم والفلسفة.
يعتبر ديكارت من الباحثين عن الحقيقة واليقين، ولذلك كان يشك لكن شكه ليس للشك والسفسطة بل للظفر باليقين، واليقين الذي كان ديكارت ينشده هو اليقين العقلي، واليقين العقلي عنده ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
  • اليقين الأول وهو يقين الفكر: وهو الذي يتمثل في عبارته أنا أفكر إذن أنا موجود، وهو حدس مباشر بمعنى أنني في نفس اللحظة التي أشك فيها أدرك فيها أنني أفكر وبالتالي أنني موجود ككائن مفكر.
  • واليقين الثاني هو وجود الله تعالى:وهو اليقين الذي انتقل به ديكارت من اليقين الأول بصورة مباشرة، فالأنا الذي يشك هو كائن ناقص والنقص لا يعرف ألا في مقابل الكمال، لذلك لم يقف ديكارت عند حقيقة وجود الذات فهذه الذات التي تفكر والتي تدرك وجودها عن طريق التفكير لا بد أن تكون ناقصة.
  • أما اليقين الثالث فهو وجود العالم:وهو اليقين الذي يأتي بعد يقين وجود النفس واليقين بوجود الله الذي يضمن وجود العالم الخارجي، وهذه اليقينيات الثلاثة متصلة الحلقات من أولها إلى أخرها، وهي في حقيقتها تدل على مراحل الفلسفة الديكارتية [5].
نستخلص هنا أن نظرية المعرفة عند ديكارت تستند بالأساس إلى الحدس والاستنباط، فقد أقام ديكارت منهجه على أسس رياضية، لأن المقدمات الرياضية تمتاز بالنظام والترابط الذي يسلم إلى النتيجة الصحيحة، فالمنهج عنده قواعد وثيقة سهلة تمنع مراعاتها الدقيقة من أن يؤخذ الباطل على أنه الحق، ويبلغ بالنفس إلى المعرفة الصحيحة بكل الأشياء التي تستطيع إدراكها دون أن تضيع في جهود غير نافعة.

براهين وجود الله عند ديكارت

يذهب ديكارت إلى أن وجود الله على المستوى الأنطولوجي (الوجود) يعتبر الحقيقة الكبرى والمبدأ الأعلى المطلق لا يختلف على وجوده مؤمن، فهو يعتقد أنها فكرة مفطورة في النفوس، وهذا ما انتصر إليه حجة الإسلام الغزالي بقوله: “فلو عرف الإنسان كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئا” [6]. فالمعرفة الحقة للأشياء تبدأ بمعرفة الله، وهذا أمر يتفق عليه الغزالي وديكارت.
ذهب ديكارت في محاولة إثبات وجود الله مذهبين:
  1. محاولة التعرف على هذا الوجود من آثاره.
  2. التوصل إلى معرفة هذا الوجود بنفس تعريفه وماهيته.
أما محاولة التعرف على هذا الوجود من آثاره فتنقسم إلى دليلين: الأول المأخوذ من صفة النقص التي تنطوي عليها ذات الفيلسوف، والتي تظهر بوضوح في الشك الذي هو نقص أو قصور عن بلوغ الحق فما كنت لأعرف أني كائن ناقص مُتَناهٍ لو لم تكن لدي فكرة الكائن -الكامل- أو -اللامتناهي- ، ويتساءل ديكارت من أين جاءتني هذه الفكرة؟ فيقول: أنه لم يستطع بنفسه أن يخلق هذه الفكرة مادام قد تبين له أنه موجود ناقص متناهٍ، والعلة التي تؤثر لا بد أن يكون لها من الحقيقة، والكمال مقدار ما بمعلولها على الأقل، والحق أنني ما كنت أشعر بنقصي ونهائيتي لولا وجود فكرة الكائن الكامل اللامتناهي، ولما كنت ناقصا فإنني لذلك لست مصدر فكرة “الكامل” أو “اللامتناهي” من حيث كوني موجودا ناقصا ولا متناهيا.
وعلى هذا النحو فهذه الفكرة لم يضعها فيّ سوى موجود لا متناه يحوي كل كمال، ولما كان الله هو ذلك الكائن الكامل اللامتناهي، فالله إذن موجود [7].

البرهان الأول:

يرى ديكارت نفسه أنه كائن ناقص لذلك فهو يشك، والشك مظهر من مظاهر النقص، وما كان له أن يعرف أنه ناقص إلا إذا كانت لديه فكرة عن الكمال المطلق، ولا يعقل أن تكون فكرته عن الكمال المطلق قد تكونت في عقله نتيجة لأنواع الكمالات الناقصة، لأن الكمال الناقص مهما اتسع فهو محدود، إذن فهذه الفكرة -كما يعتقد- لم يضعها في نفسه إلا موجود كامل لا متناهٍ، هذا الموجود اللامتناهي هو الله.

البرهان الثاني:

يقول ديكارت متسائلا: إذا كنت موجودا ناقصا وفي ذهني فكرة عن الموجود الكامل فما هي علة وجودي إذن؟ ويجيب: أنا لا أستطيع أن أتصور أنني خلقت نفسي بنفسي، وإلا لوهبتها كل صنوف الكمال وبرأتها من كل نقص، ولم يخلقني كذلك إله ناقص، وإلا لكان الأجدر به أن يمنح نفسه الكمال، إذن خالقي كامل وهو علة وجودي.

البرهان الثالث:

إذا كان الله هو الكائن الكامل، وكان الوجود كمالا، فالله إذن موجود، فديكارت يرى أن ماهية الله أو فكرة الكائن الكامل يستلزم بالضرورة الوجود الخارجي، فالبرهنة على وجود الله عند ديكارت غاية ووسيلة في آن واحد، غاية لأن العقيدة الصحيحة لا تتحقق بدونها، ووسيلة لأنه ليس ثمة يقين إلا ما بني على وجود الله سبحانه [8].
لم يحاول ديكارت أن يبرهن على وجود الله عن طريق العالم، بل زعم أن معرفة الله هي التي توصلنا إلى إدراك العالم الطبيعي، فهو لم يحاول أن يستخدم الأرض للصعود إلى السماء، بل استخدم السماء للنزول إلى الأرض، وهو لم يستشهد بالكون على وجود خالقه، بل استشهد بالخالق على وجود المخلوق.
تخضع الميتافيزيقا الديكارتية لمتطلب مزدوج، متطلب ديني لأن ديكارت رجل عميق التدين وفيلسوف مؤمن، لهذا فهو لا يكتفي بالإيمان الوجداني بالله، بل يذهب إلى ضرورة البرهنة على وجوده [9].
الألوهية إذن وفق مفهوم ديكارت هي أساس صدق العلوم، فهي التي تخلق الحقائق الأبدية التي نضمن بها ثبات المعرفة العلمية التي نتوصل إلى معرفتها بواسطة عقولنا الموهوبة بالنور الفطري، والتي أودعها الله ملكات كالذاكرة، والذكاء وهي الضامن الأزلي لاستمرار الوجود، وما يحتويه من مخلوقات حسب قوانين سيرها، كما أنها معيار لصحة أفكارنا الواضحة المتميزة، فيقين المعرفة، وجلاؤها الكامل يتوقفان على معرفة الله الحق مصدر الثقة والصدق، ومنبع حقائق العلم الموجودة في علمه منذ الأزل.
فها هو ذا أحد كبار فلاسفة الغرب الذي يعود له الفضل الكبير في تطور العقل الغربي بمنهجه الجديد أو ما يسمى بالأورغانون الجديد، لا يستسيغ أن يكون الكون بلا خالق مدبر حكيم، بل يعتبر إنكار الإله خللا في النسق الفلسفي والبناء المعرفي السليم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] : تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ديكارت، ترجمة كمال الحاج، ص25
[2] : تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ديكارت، ترجمة كمال الحاج، ص26
[3] : مقال عن المنهج، ديكارت، ص 230
[4] : المنهج الفلسفي عند الغزالي وديكارت، جمال المهدلي، ص 199
[5] : المصدر السابق، ص 202
[6] : إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي 61/3
[7] : ديكارت أو الفلسفة العقلية، راوية عبد المنعم، ص 230
[8] : ديكارت رائد الفلسفة في العصر الحديث، كامل محمد عويضة، ص 61
[9] : في النظرية الفلسفية للمعرفة، محمد هشام، ص71

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الجهاز العصبي و مكوناته

حدث في مثل هذا اليوم: 6 فبراير

علماء و مبتكرون عرب في المهجر